كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{علّمه البيان}..
ثم تجىء بعد هذا آيتان من ثلاث كلمات:
{الشمس والقمر بحسبان}..
{والنجم والشجر يسجدان}..
ثم تتلوها آيتان من أربع كلمات:
{والسماء رفعها ووضع الميزان}..
{ألّا تطغوا في الميزان}..
تعقبها آية من ست كلمات:
{وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}..
ثم تتلوها آية من ثلاث كلمات:
{والأرض وضعها للأنام}..
تجيء بعدها آية من خمس كلمات:
{فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام}..
ثم آية من أربع:
{والحبّ ذو العصف والريحان}..
ثم تجىء بعد هذا الآية:
{فبأى آلاء ربكما تكذبان}..
فتكون هي القرار الذي ينتهى إليه النغم، والذي يتردد بعد كل آية أو آيتين من السورة..
إن لعلماء الموسيقى مجالا فسيحا للدراسة والإفادة من هذا النظم، الذي تمثل كلّ آية منه جملة موسيقية، تختلف طولا وقصرا، وتأتلف مطلعا- قرارا..
أما عند الموسيقىّ، فإنه يجد نفسه، وهو يتلو هذه الآيات إنما يتلقى درسا علويا من ينابيع الموسيقى السماوية، فيستفتح اللحن بكلمة {الرحمن} فيعطيها كل ما يمتلىء به صدره من أنفاس الحياة.. ثم يعود فيوزع أنفاسه بين كلمتين، كلمتين، ثم بين ثلاث ثلاث، ثم بين أربع أربع، ثم بين ست كلمات، هي آخر ما يمكن أن يمتد إليه النفس غالبا. ثم يعود ليلتقط أنفاسه، فيوزّعها بين ثلاث كلمات.. ثم يأخذ نفسه مرة أخرى ليوزعه على خمس كلمات..
وهنا يكون النفس قد توازن، وانضبط على حدود معينة، بين ثلاث كلمات، وخمس كلمات، فتلقاه الآية التي ستكرر على امتداد السورة، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ}.
وهى من أربع كلمات، هي وسط بين الثلاث، والخمس!! هذا قليل من كثير لا نهاية له، مما يجده الناظر في نظم هذا المقطع، الذي بدئت به السورة، والذي جاءت عليه السورة كلها..
أما المعنى الذي وراء هذا النظم، فهو أروع وأعجب.. إنه جامعة معارف، وبحار لآلئ ودرر، لا تزال أبد الدهر تغرى الطالبين لها، الغواصين في بحارها، ليملئوا أيديهم منها، ويزينوا جيد الزمن بما ينظمون من جواهرها.. وها نحن أولاء نمدّ أبدينا إلى ما يفضل به اللّه تعالى علينا من فيض كرمه وإحسانه..
قوله تعالى: {الرَّحْمنُ} هو اللّه سبحانه وتعالى، المتجلّى بتلك الصفة من صفاته الكريمة،
وهى الرحمة، التي هي اللطف الساري في هذا الوجود، والنور الهادي لكل موجود..
وقد سميت السورة سورة {الرحمن}.. فهى بهذا محلّى من مجالى رحمة اللّه، وكل آية من آياتها رحمة راحمة، ونعمة سابغة، حتى تلك الآيات التي تحمل العذاب إلى الكافرين والضالين.. فإنهم- مع هذا العذاب الذي هم فيه- واقعون تحت رحمة اللّه، ولولا هذه الرحمة لتضاعف لهم هذا العذاب أضعافا كثيرة، لا تنتهى..
وإن هذا العذاب الذي هم فيه، هو رحمة واسعة بالإضافة إلى ما في قدرة اللّه من عذاب، يتعذب به هذا العذاب نفسه!! وقوله تعالى: {عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ}..
هو أول تجليات رحمة الرحمن، وأعظمها شأنا، فيما يتصل بالإنسان..
ولهذا قدّم تعليم القرآن، أي القراءة، على خلق الإنسان ذاته، الذي هو موضع هذه الرحمة، ومتلّقى غيوثها..
فالقرآن- كما أشرنا من قبل- معناه هنا القراءة والدرس، والتعلم.. ومن أجل هذه القراءة، وهذا الدرس والتعلم خلق الإنسان، ليعرف اللّه، ويتعبد له، كما يقول سبحانه: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.. [56: الذاريات] فبهذه القراءة الواعية، يكون لقراءة القرآن ثمراتها، التي يحصل بها الخير كله، الذي ملاكه معرفة اللّه، والإيمان به، والولاء له.. وقد كان سياق المعنى، يقضى- في ظاهر الأمر- بأن يقدم خلق الإنسان على تعلمه القراءة، مطلقا، أو قراءة القرآن بصفة خاصة.. ولكن النظم القرآنى لا يوزن بميزان نظم البشر لكلامهم.. فهذا كلام اللّه..
وكلامه صفة من صفاته، والفرق بين كلام اللّه وكلام البشر كالفرق بين صفات اللّه، وصفات عباد اللّه.. ولا تصح المقايسة بحال أبدا بين الخالق، والمخلوق..
نقول- كان سياق النظم يقضى- في ظاهر الأمر- بأن يقدّم خلق الإنسان على تعلم القرآن، فيقال: الرحمن، خلق الإنسان، علم القرآن..
فماذا إذن وراء هذا النظم الذي جاء عليه القرآن؟
والجواب، أن وراء هذا النظم كثيرا من الأسرار، لا يحصيها العدّ، ولا يحيط بها العقل..
وإنما هي أسرار تتكشف حالا بعد حال، على مسرح العقول، وعلى امتداد الأزمان والآباد..
والذي يبدو لنا من هذا النظم- واللّه أعلم- أن القراءة، وهى- كما قلنا- قراءة عامة في صحف الوجود، وفى الكتب- هي التي تكشف للإنسان الطريق إلى اللّه، وتدله على اللّه سبحانه من كمال وجلال، ومن تفرد بالخلق والأمر..
والتعرف على اللّه، هو الغاية من خلق الإنسان على تلك الصورة الفريدة، التي امتاز بها عن عالم المخلوقات كلها، والتي استقل بها وحده بحمل الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، والتي بها أيضا استحق أن يكون أولى من الملائكة بخلافة اللّه على هذه الأرض..
فلمعرفة اللّه تلك المعرفة القائمة على وعى، وإدراك، وعلى حساب وتقدير- كان خلق الإنسان..
فمعرفة اللّه، هي العلة، وخلق الإنسان ليقوم بوظيفة هذه المعرفة هو معلول لهذه العلة، والعلة مقدمة على معلولها.. ولهذا قدم قوله تعالى: {عَلَّمَ القرآن} على قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسانَ} وقد {عَلَّمَهُ الْبَيانَ}..
أي خلقه ذا عقل وإدراك..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [56: الذاريات] أي ليعرفونى، ويعبدونى.. وما يشير إليه قوله سبحانه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقال أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قال يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قال أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [31- 33: البقرة].. فاللّه سبحانه وتعالى، قد علم آدم: {خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ} أي خلقه قادرا على البيان والإفصاح عن حقائق الأشياء، والتمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، والهدى والضلال.. ولم يعلّم سبحانه وتعالى الملائكة هذا العلم، ولم يخلقهم على طبيعة............................
ترى هذا التزاوج في الموجودات، وإنما هم على طبيعة هي من عالم الحق، والخير، والنور، فلا ترى من الأشياء إلا ما هو حق، وخير، ونور..
وهنا يبدو لنا بعض السر في هذا الجمع بين الجن والإنس في قوله تعالى: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
فالجن في هذا المقام كالإنس، في أن كلا منهما على طبيعة يرى بها الأشياء في هذا الازدواج: الخير والشر، والحق والباطل.. وكما جمعت هذه الطبيعة بين الجن والإنس في رؤية الأشياء على الازدواج- جمعت بينهما في الخطيئة، وفى عصيان أمر اللّه.. فعصى إبليس أمر ربه بالسجود لآدم، وعصى آدم ربه في الأكل من الشجرة التي نهاه اللّه عن الأكل منها.. فالشيطان عصى في أمر، وآدم عصى في نهى.. وعصيان الأمر- في ميزان التحدّى والمخالفة- أثقل وأشنع منه، في حال النهى.. إذ كان الأمر إيجابا، والنهى سلبا..
فالأمر فعل، والنهى ترك.. وإتيان المأمورات، مقدم على ترك المنهيات، ولهذا التزم القرآن تقديم الأمر على النهى في كل مقام اجتمعا فيه، فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [110: آل عمران] وقال سبحانه: {يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [17: لقمان].
وذلك أن فعل الأمر، يحمل في طياته الانتهاء عن منكر يقع فيه من لا يمتثل الأمر.. ومخالفة الأمر يحمل مع تضييع الأمر، الوقوع في محذور النهى.. وليس الشأن كذلك في النهى، الذي يقف بصاحبه عند محذور النهى، إذا هو فعل المنهي عنه..
ومن هنا كان إتيان المأمورات مثابا عليه، بخلاف اجتناب المنهيّات، فإنه بحسب المرء باجتنابها أن يسلم من شرها، ويخرج معافى لا عليه، ولا له.. ومع هذا، فإن الشيطان خالف أمر ربه بامتناعه عن السجود لآدم.. وآدم عصى ربه كذلك بإتيان ما نهاه عنه، فأكل من الشجرة- ولهذا كان لكل منهما حسابه وعقابه.. وقد أظهر آدم الندم، وأقبل على ربه تائبا مستغفرا، فتقبّل اللّه سبحانه وتعالى توبته وغفر له.. وأما الشيطان فقد أحاطت به خطيئته، وأعمته عن طريق الرجوع إلى اللّه سبحانه، فمضى في غيّه وضلاله، تصحبه لعنة اللّه إلى يوم الدين..
وقد تحدّى إبليس- لعنه اللّه- ربه، ورأى في نفسه في انه خير من آدم، وأنه قادر على إفساده، وجعله وليّا له، محاربا للّه الذي كرمه وأمر الملائكة بالسجود له!! وكان من حلم اللّه، على هذا اللعين، أن أفسح له في مجال التحدي، وأن يجلب بخيله ورجله علىبنى آدم، وسيرى أنه مقهور مخذول، فإنه لن ينال من عباد اللّه مالا، وإنما هو دعوة يستجيب لها من أبناء آدم من سبقت عليه كلمة اللّه، فكان من أهل النار، كما يقول سبحانه: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ}.. وكما يقول سبحانه: {إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ} [6: فاطر].. ماذا هناك؟
ونحن بين يدى سورة {الرحمن} وفى أنس وروح من رحمة الرحمن، تهب علينا، وعلى غير انتظار، ريح سموم من رياح هذه الدنيا، تلفح وجوهنا، وتكوى مشاعرنا، وتثير بلبلة واضطرابا في خواطرنا.. حتى ليكاد ذلك يفسد علينا هذا الجو المعطر بأنفاس الرحمة، ويقطع عنا- في غفلة من إيماننا باللّه، وثقتنا في رحمته- هذا الأنس برحمة الرحمن..
ثم.. ثم ماذا؟
ثم نجد رحمة الرحمن الرحيم تحفّ بنا، وتعيدنا مرة أخرى إلى رحاب هذه السورة الكريمة- بعد أن انقطعنا عنها أياما، جريا وراء لقمة عيش نحصّلها من حديث في صحيفة، أو إذاعة- وإذا بنا نجد أنفسنا وقد أظلّتها السكينة، وعاد إليها الأمن والسلام..
أما هذه الريح السموم، فإننا ندعها لرحمة الرحمن، لتحيل نارها بردا وسلاما.. فذلك هو إيماننا باللّه، وثقتنا في رحمته..
ونعود إلى نظم الآيات مرة أخرى..
{الرَّحْمنُ عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ}..
فماذا نرى في هذا النظم، من حيث المعنى، بعد أن كانت نظرتنا مقصورة على حدود النغم والجرس؟
هنا نجد- وهذا في حدود نظرنا المحدود القاصر- أن الآيات الكريمات يأخذ بعضها بأعناق بعض، في تعاطف، وتآلف، من غير أن يدخل بينها عاطف صناعى يشى بهذا السر الذي بينها، ويتسمع إلى هذه المناجاة الودود، بين الأحباء والأصفياء..